تجليات البعد النفسي في ( بكره العيد وبنعيد ) مجموعة قصصية للكاتب محمد سرسك
قراءة بديعة النعيمي
افتتح الكاتب مجموعته القصصية باقتباس لناقد روسي يقول فيه: من بين مهام الأدب العظيمة تسجيل العوالم الفريدة قبل انقراضها نهائيا. وهذه كانت بالفعل الوظيفة التي سعى محمد سرسك إلى تحقيقها من خلال مجموعته حيث سعى إلى تسجيل ما احتفظت به ذاكرته الخصبة من حكايات جرت أحداثها في المخيم الذي لم يخبرنا عن اسمه ربما ليشير إلى أن حياة المخيمات جميعها واحدة. اشتملت المجموعة اثنتي عشرة قصة كانت بمثابة جمرات تقبع أسفل رماد الذاكرة ،ما أن حركها الكاتب حتى اتقدت لتضيء لنا الطريق نحو المخيم الذي تتمدد على جسده آلاف الحكايات لأشخاص بنفسياتهم البشرية. قصص سرسك أشبه بصندوق الكنز بيد أن كنزه ليس مادياً إنما هو من ذلك النوع النفسي بكل ما تحمل النفس من حزن وفرح ،حب وكره، رفض والتصاق…كيف لا وتلك الأنفس تقبع في المخيم ببيوته بجدرانها التي امتلأت بصور البكاء والجوع والبرد والمرض. ذلك المخيم الذي ترآه تارة يضحك وأخرى يبكي بعد أن تقمص مشاعر ساكنيه وتفاصيلهم، المخيم المكان المهمش المهشم عاري الصدر أمام التحديات .مكان الأحلام لأناس فقدوا كل شيء وبات همهم المأكل والملبس والدفء. المخيم الذي انقلبت سماؤه إلى ضوء يتراءى في الأفق يحمل أمل العودة وأرضه مدارس للفدائيين. المخيم بكل آلامه بكل تناقضاته سَجَّلَ لمحمد سرسك هدفا في مرمى الذاكرة. من المعروف أن التحليل النفسي قدم للأدب خدمات كبيرة ومفاتيح لتحليل شخصيات النصوص الأدبية ذلك لأن علم النفس من أقرب العلوم إلى الإبداع الأدبي.وتمثل الشخصية مكونا مهما من المكونات الفنية للقصة فهي القادرة على صنع اللغة وتثبيت الحوار القيام بالأحداث وتطورها كما أنها هي التي تقوم بدور وصف المشاهد. وللشخصية أبعاد ثلاثة ،جسمي،نفسي واجتماعي لكن ما يهمنا في دراستنا لمجموعة سرسك القصصية هو البعد النفسي ذلك لأن هدفنا هو دراسة الشخصية من منظور نفسي كون هذا البعد يتعلق بالمزاج والميول وما يعتري الإنسان من عقد نقص تؤثر على كيانه الاجتماعي والجسماني وما ينتج عنه من ردود فعل وأبعاد مختلفة كذلك الأحوال الفكرية والنفسية وما ينتج عنها من تصرفات وآراء يدلي بها في مناجاته مع الآخرين والحديث عن مكبوتاتهم والعالم اللاوعي الخاص بهم.وقد تعرف النفسانيين على الشخصيات من خلال الممارسات وعلاقاتها مع بعضها البعض من خلال هذا كله يكتشفون الجانب الخفي والمظلم من الشخصية. ومن هنا جاء تصنيف الشخصيات في النصوص الأدبية إلى سوية مستقرة أو مرضية انطوائية. لذلك كان البعد النفسي من الأمور المهمة في تبيان ملامح الشخصية في العمل الأدبي. ولكل واحدة من شخصيات سرسك أبعادها النفسية فكل منهم واجه مواقف وأحداث تسببت له في الألم والحزن لذلك جاءت معظم شخصياته غير مستقرة ففي القصة الموسومة ( الفرن الذي غرق) نجد البطل يحمل نظرة متشائمة نحو الحياة بسبب ظروف المخيم وخصوصاً في فصل الشتاء حيث الطين ،الريح،المطر الذي يغرق المخيم بالوحل. فنجده ص11 يؤنسن الطين ويتخيله عدوا أمامه يكن له الكره والحقد ( كنت أعاديه هذا الطين وهذا البرد مثل محارب. وفي ص16 يود البطل لو يصرخ ومن المعلوم بأن الصراخ يخفف التوتر في لحظة ما دون أن يحل المشكلة فهو أراد الصراخ فقط ليريح نفسه المعذبة المقهورة التي ما فتئت تشعر بالظلم.
في حين نجد بطل القصة الموسومة ( بكره العيد وبنعيد) يعاني الهشاشة والتوهان والشخص الذي يعاني من هذا المرض شخص لا يعرف مكانه أو هويته ويتجلى ذلك بما جاء على لسانه ص٢٢( في صباح اليوم التالي كان عيد ،قلبي تناثر إلى ندف صغيرة هشة ،بحثت بينها عن أية مشاعر كان بحثي من غير جدوى …حتى أنني أكاد أتيه فيها) كما أن بطل هذه القصة يعاني من اليأس بالمستقبل بسبب الفقر الذي. يغتال أحلامه ففي ص14( …وجدب الفقر الذي يفترس الأحلام). أما شخصية لمياء في قصة ( أمي امراة) فهي شخصية تعيش فقدان أجمل إحساس وهو الحرمان من عاطفة الحنان الأبوي حيث كانت تكره أباها الذي يضرب أمها كل يوم ولا يعترف بها كامرأة ففي ص43 على لسان السارد ( تتعالى صرخات الأم ،يضربها ،يشتمها ويكرر : لست امرأة..لم تع لمياء وأذهلها السؤال ،لماذا؟ ناست تأوهات الأم ،هدأت فورة الرجل ،لمياء ظلت تبكي بصمت) ونجد بأن قسوة الأب كانت سببا رئيسا لتوليد مشاعر الكره عند لمياء وهذا ما أدى إلى إفقادها جزءا كبيرا من استقرارها النفسي وتغير نظرتها للمستقبل فبعد أن كانت تحلم أن تصبح طبيبة أجابت عندما سألتها المعلمة ماذا ستصبح ص50( أن أصبح امراة..أمي امراة..صرخت). كما أن أم لمياء تحمل في داخلها جوعاً وفقداناً للحنان وإلى شخص يشعرها بأنها امرأة وربما وجدت هذا الشبع عند صديق زوجها ،فحين لجأت لمياء إلى أبي الخير صديق أبيها الغائب وكان الأب قد أوصاه على العائلة في غيابه ص48 على لسان السارد عن لمياء( قفزت عيونها من صورة لأخرى كل النساء كن وقحات. فخرجت…انتظرت طويلا عودة أمها …عند الغروب قدمت أمها ،كان الطفل نائما بين ذراعيها وكان وجه أمها ساكنا بلا أدنى تعبير …بعد ذلك أصبحت أمها تبتسم كلما قدم أبو الخير).
وفي قصة ( أنا والآخر ) نجد البطل قد أقبل على الشرب كحل للهروب من الواقع المرير والألم النفسي الذي يعيشه والذي فرضته عليه الظروف ففي ص33 على لسان البطل ( نمت على خدر الشراب وكلما اصحو كنت ارى نفسي اثنين فأخاثم الآخر ونمشي معا متناحرين متشاحنين) وفي نفس الصفحة على لسانه( كسيرة خرجت الذكريات من رأسي..) الذكريات مكانها العقل وعندما تخرج كسيرة فهذا يدل على حالة من الكرب والتوتر الشديدين اللتين يعيشهما البطل. ونجد بطل قصة ( الكرة المخروقة) يعيش حالة نفسية متأزمة ومضطربة بسبب فقدان حبيبته لينه فقد كانت كسرا أضيف إلى انكساراته. ففي ص52( كثيرة هي الأشياء..وكلها في الشتاء تصلح لأن تكون مشاهد جريمة …كأن يخبره أحدهم بأن لينه قتلتها الأقمشة وانكفأت كل الأضواء التي كانت تتلألأ في عينيها..) وفي نفس الصفحة على لسان السارد ( أشعل سيجارته ،بدا ينفث دخانها أحس بأنه يختنق ،تضيق الغرفة) فالانطفاء والاختناق وضيق المساحة كلها ألفاظ تدل على حالة نفسية مأزومة مضطربة مكروبة تعاني من الخوف والقلق ويعتبر ترجمة للأعراض الجسدية. وأخيرا نجد بطل قصة ( الجدث) يفضل الموت على الحياة برسالة يبعث بها لأمه من حياته الأخرى التي وجد بها الراحة( أصد النزيف بكفي ..ضممت في الجرح حوافا صقيلة كانت تنهشني وتغوص في لحمي..سقطت دمعتك الاخيرة فانبعث الركام مرة أخرى مخيما من صفيح) يحلم بطل الجدث بحياة بلا بارود ص٥٦( بعرق الدوالي وآخر عرق العصافير والفراش على ثوب أمه وأسماء اخرى بالكروم وينبعث منها فجر للطيور) وفي العبارة الأخيرة نستل خيط أمل في المجموعة القصصية بأن الفجر سوف يولد فجر جديد بلا بارود. وأخيرا بقي أن نقول بأن محمد سرسك استطاع من خلال شخصيات مجموعته متكاملة البناء أن يغوص في أعماق النفس البشرية التي عذبتها تجربة الحياة الإجبارية التي فرضت على الشعب الفلسطيني في المخيمات وقد نجح بدعوته لنا لمشاركة تلك الشخصيات همومها ومشاكلها.