قراءة بديعة النعيمي
تتميز بعض الأعمال الروائية باحتوائها على جزئين الأول ظاهر ومفهوم أما الثاني فغاطس تحت الأول وغير ظاهر وهو ما يندرج تحت مسمى المغيب أو المسكوت عنه لكنه مواز للجزء الظاهر ولا يقل عنه أهمية. ونحن في هذه الرواية التي بين أيدينا أمام نص من هذا النوع من النصوص. الجزء الظاهر منها يروي معاناة شاب من مدينة جرش الأثرية حاصل على بكالوريوس حقوق ويمثل نموذجا من مئات النماذج للشباب الذين يعانون من البطالة. قسم حسام الرشيد روايته التي كانت على شكل سيرة ذاتية للبطل يرويها على لسانه إلى خمس محاولات وكل محاولة تتقدمها إشارة كل واحدة منها تحمل دلالات عميقة للوضع النفسي الذي يمر به بطلنا. فنجد البطل في المحاولة الأولى يخبرنا عن تجربته التي كتبها لنا على شكل سيرة ذاتية ويلجأ إلى أسطرة شخصيته فيطلق على نفسه جلجامش لكنه جلجامش آخر غير ذلك الذي خاض رحلة طويلة للبحث عن عشبة الخلود. إنما هو مجرد باحث عن فرصة يسد بها رمقه. فيخوض رحلة البحث من خلال الخمس محاولات تلك حيث تواجهه المصاعب والعراقيل لكن تبقى المحاولة هي شعاره. لينتهي به المطاف إلى الموت ذلك الذي تمناه. ومن هنا جاءت عتبة العنوان البكاء بين يدي عزرائيل. فالموت هو ما كان البطل يتمناه بعد كل خيبة وإخفاقه. صنع الكاتب في هذا الجزء الظاهر من النص ثنائية ضدية الأمل/اليأس فكانت هذه الضدية هي المهيمنة بحيث أنها حددت جزءا كبيرا من آليات السرد ووجهات النظر والرؤى التي أسهمت في عملية الاستنطاق الدلالي للنص. أما ما يخص الجزء الثاني من النص وهو المسكوت عنه فنجد الكاتب قد اضطر تحت سلطة الرقيب إلى ترك الكثير من الفجوات الصامتة بعد أن لجأ إلى حذف عدة فضاءات حساسة ومنها محظورة ولو أن الكاتب كان يعيش في ظل ما يعرف بحرية التعبير لكانت طريقته في التعبير حتما ستكون مختلفة. وقد ترك الكاتب بعض الإشارات المكانية والزمانية من خلال عبارات مقتضبة للمتلقي ليلتقط من خلالها ما أراد قوله. ومن هنا كان لا بد للمتلقي من اللجوء إلى عمليات من الحفر المعرفي داخل النص لإزالة الطبقة الظاهرة والوصول إلى تلك الطبقة المختفية أسفلها وهذا ما سنقوم به بعيدا عن مفردات الحظر والمنع في هذه القراءة الممكنة والتي قد تفندها قراءة أخرى.
ففي صفحة 20 يقول البطل عن مناحي سروان وهو عراقي يعمل مشرفا في مركز تدريب الفنون القتالية للكاراتيه ( كان ضابطا في الجيش العراقي الذي انفرط عقده كالمسبحة) وإذا نظرنا إلى التاريخ الذي بدأت به الرواية سنجده العام 1992 ومن هنا نستطيع تحليل عبارة الذي انفرط عقده كالمسبحة .فلو بحثنا في تاريخ أحداث العراق في تلك الفترة نجده قد خاض حروبا كثيرة أنهكت جيشه آخرها لغاية ذلك التاريخ حرب الخليج الثانية التي شنتها قوات الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة وبعض الدول العربية من وراء الكواليس ضد العراق لتحرير الكويت.
أما في الصفحة 29 فنجده يذكر بشكل سريع البعثات الأجنبية التي قامت بترميم الجسر الروماني فيقول على لسان السارد(على الجسر الروماني مشينا ،كان الجسر المبني من الكتل الحجرية قبل ترميمة من قبل البعثات الأجنبية) وهنا يحاول لفت نظر المتلقي إلى التدخل السافر الخارجي حتى في آثار البلد لكنه لم يقلها صراحة.
وفي صفحة 30 ومن خلال إقامة البطل ليلة في خيمة عمه المنسي المتواجدة في منطقة الآثار سمع صوت ضربات فؤوس خلف الخيمة فيخبره المنسي بأن الحفريات أدت إلى اكتشاف أثري وهو سحر ملفوف في لفائف من الفضة ( السائحون اليهود كعادتهم ادعوا أن هذا الاكتشاف الجديد ربما يبرهن على ان اليهود عاشوا هنا) ونفهم من خلال هذا الحديث بأنها ليست المرة الأولى التي يقدم اليهود على عملية الحفر داخل حرم المدينة الأثرية من أجل إثبات كذبة صنعوها تقول بأن جرش مدينة يهودية.
وفي موقع آخر يقول السارد على لسان البطل (كان لورنس العرب يجلس وحيدا …يكتب أعمدة الحكمة السبعة…يقف أمام الخيمة ويرسم على الهواء برأس سبابته الحرب خديعة أيها الرفاق) يكتفي الكاتب بهذه المقتطفات السريعة فهو لم يفصح بالحقيقة وتركها للمتلقي ليبحث عنها ليكتشف بأن لورنس هو من الكذبات الكثيرة التي غيرت مجرى التاريخ وتحكمت بنا باسم بريطانيا العظمى. فلورنس هو الذي فتح الطريق للقائد البريطاني اللنبي لدخول القدس واحتلالها وبالتالي ساهم في ضياع فلسطين.
أما في الصفحتين 71 و72 فيخبرنا عن احتجاز المنسي بعد أن أقدم على حرق خيمته عندما رأى حاخامات من اليهود يمسكون غلاف توراتهم المزعوم ويقومون بطقوسهم هناك واتهام السلطات له بالإرهاب وعرقلة مساعي السلام الذي سيبرم بعد أقل من عامين بين بلدين…وهنا ذكر اسم المعاهدة ولم يذكر اسم البلدين وهذا من المسكوت عنه الذي حذفه بسبب عين الرقيب وترك فيه ثغرة على المتلقي إيجادها.وفي الصفحتين 77 و78 يذكر حادثة حصلت مع جاسر أحد شخوص الرواية حينما كان يؤدي نوبة حراسته على نهر الشريعة وكيف أفرغ سلاحة عندما سمع خرخشة فظنه متسلل إلى الضفة الأخرى .لكن المفاجأة كانت أنه قتل حمارا قبرصيا .وحوكم بسبب تقصيره بواجبه.. سكت الكاتب هنا عن ذكر الضفة الغربية وقال الضفة الأخرى ذكر الضفة وسكت عن الغربية. وسكت أيضا عن ذكر قصة تهريب الأسلحة على ظهور الحمير إلى الثوار في فلسطين.
وفي الصفحة 101 يأتي على ذكر جريدة موضوعة على الطاولة نشرت فيها صورة لحيدر عبد الشافي كبير المفاوضين الفلسطينيين في مفاوضات مدريد ..وهنا أتى على ذكر الخبر بشكل سريع ولم يعقب على ذلك المؤتمر ولا ذكر رأيه به.
وهنا يجب القول بأن الكاتب استخدم هذه التقنية في أجزاء عديدة من الرواية على شكل أسطر قليلة ونحن هنا أتينا على بعضا منها وبقي الكثير لضيق هذه السطور.
ومن الأساليب التي أدت أيضا إلى تولد هذا الجزء المغيب استخدام الكاتب اللجوء إلى الأحلام والكوابيس التي جاءت كنتيجة بعيدا عن لغة القمع والاستلاب والكبت. كما لجأ إلى صنع بعض الشخصيات مثل شخصية نادية ذات العلاقات الاجتماعية الممتدة كأذرع أخطبوط فمن أختها قتيبة غريبة الأطوار إلى المحامي كميل الموقوف عن العمل ولا زال يحتفظ بمكتبه مفتوحا إلى الشيخ صهيب المتخفي خلف لحية وثوب قصير وسنن ابن ماجة إلى الثري المرشح للانتخابات مجاهد اليوسف صاحب الشركات وصحيفة أسبوعية لها أغراض مشبوهة. كل هذا اندرج تحت المسكوت عنه الذي قام الكاتب بتركه فترك بذلك لنا ثغرات وفجوات كثيرة يتطلب من النقاد تعبئتها.
وأخيرا نود أن نذكر بأن الكاتب استثمر الحدث التاريخي من خلال استعادة الماضي الزماني والمكاني ووظفه كوسيلة أي أنه قام باستعادته ليس فقط من أجل الاستعادة إنما الهدف من ذلك كان أبعد وهذا ينطبق على آخر مشهد في الرواية.