كان الحل لمشكلة اليهود وفقا لجابوتنسكي الصهيوني التصحيحي، إحداث تغيير جوهري شامل في ظروف حياة اليهود. وهذا التغيير يتمثل بإيجاد بقعة أرض خاصة وتجميع الأقليات اليهودية المنتشرة في الشتات. أي أن الحل هو حل إقليمي.
بعد ذلك انتزاع اعتراف من المجتمع الدولي وخاصة من دول عظمى بهذه البقعة. وكان من المفترض أن يتوفر في هذه البقعة شرط لن يتوفر في أي بقعة أخرى، وهو ” قوة جذب لليهود”. وقوة الجذب هذه لم تتوافر في أي بقعة عدا فلسطين. فكانت الخيار من حيث “الرابطة الدينية”.
ولأن جابوتنسكي لم ينشأ في أسرة يهودية ذات تقاليد يهودية دينية لذلك لم تكن تربطه بفلسطين أي رابطة دينية ،إلا أنه اختارها لأنه أراد استغلال قوة الجذب تلك”الدينية”, والتي بدونها لن يتحقق تجميع اليهود في بقعة واحدة تكون وطنا لهم. وكان اختيار فلسطين أيضا بسبب وجود قاعدة ديمغرافية جيدة لليهود في فلسطين لا تتوافر في أي بقعة أخرى من بقية الخيارات.
ونجد ذلك في قول جابوتنسكي” في ارض إسرائيل لدينا ثلاثون مستوطنة وبنك له فروع وأراض بملكية خاصة” ويتابع ” من السهل بفضل وجود هذه الأرضية الحصول على موافقة الجهات الدولية على إعطاء عهدة على فلسطين أكثر من أية بقعة أرض أخرى”.
ومن هنا فإن مشكلة اليهود كانت قد شكلت مركز وجوهر بالنسبة لرؤية جابوتنسكي الأيديولوجية،فإنقاذ اليهود من الشتات والاضطهاد كان هو الأساس وحتى لو كان على حساب الشعب الأصيل( الفلسطيني) الذي سيكون مصيره القتل أو النفي وفي أحسن الأحوال سيتحول إلى أقلية على أرضه. وهنا نجده يقول ” نحن نصر على وجهة النظر القائلة: نعطي من لا يملك شيئاً ،ونأخذ ممن يمتلك أكثر من اللازم” فجابوتنسكي يرى أن مطلب اليهود بالسيادة على أرض فلسطين ،عادل أكثر من مطلب العرب وحقهم بأرضهم.
وهو بذلك يقر بوجود قومية فلسطينية لذلك فقد رأى بأن الصراع لا يمكن حله من خلال التسويات السياسية لأن الفلسطينيين لن يقبلوا بذلك. لذلك سيتم حسم هذا الصراع “بالقوة”. هذا الصراع الذي كان جابوتنسكي انتقائيا في اختيار مصطلحاته من أجل كسب تأييد الرأي العالمي ،لم يصفه بالصراع الفلسطيني الصهيوني بل نعته بالصراع العربي والشعب اليهودي “المسكين” الذي يبحث له عن بقعة تقيه الموت.
قال العربي ولم يقل الفلسطيني حتى يشعر العالم أن هؤلاء اليهود سيكون صراعهم مع كل الشعوب العربية. وبنفس الوقت نجد جابوتنسكي وقد تمسك بفكرة وحدة فلسطين التاريخية الشرقية والغربية بالرغم من سايكس بيكو التي قسمت فلسطين إلى دولتين شرق النهر وغربه.
وقد ظل طيلة سنوات عمره متمسكا بوطن مزعوم اسمه ” أرض إسرائيل” وهو يرى أنه بهذا يقيم وطنا لليهود يساعد من خلاله على توسيع حدود أوروبا التي يفتخر بأنه ينتمي إلى ثقافتها ويتقزز من ثقافة الشرق الذي طالما نعته بالشرق المتخلف وأن احتلال اليهود له سينعشه ثقافيا ويخرجه من غياهب التخلف. ومن هنا فهو لا يرى أن ما حصل من احتلال لأرض فلسطين التي لا يمتلك اليهود فيها شبرا ظلما بل تحررا لأن مطالب الحركة الصهيونية التي تسعى للتغيير هي الإعمار والتطوير. فتفوق ثقافة غربية على ثقافة شرقية يحتم للأولى الحياة وللثانية الاندثار والموت.
وقد مر في التاريخ القصير لهذه الدويلة اليهودية شخصيات سياسية وثقافة يهودية اعتبرت نفسها وريثة مخلصة لأفكار جابوتنسكي الأيديولوجية وتوجهاته السياسية من أمثال مناحيم بيغن وإسحاق شامير وأرئيل شارون وصولا إلى بنيامين نتنياهو. ومن المعروف أن حزب الليكود الذي ينتمي له نتنياهو يحمل أفكار جابوتنسكي السياسية ويعمل على تحقيقها.
والدليل على ذلك ما حصل قبل عملية طوفان الأقصى بأيام حينما عرض نتنياهو خريطة لدولة الاحتلال في الجمعية العامة للأمم المتحدة في خطابه. وهو لم يفعل ذلك إلا أنه ورث خريطة الأب الروحي جابوتنسكي التي تدعو إلى توسيع هذه الدولة.
وقد صرح بنيامين نتنياهو في ١٩/ يناير/. ٢٠٢٤ في تصعيد جديد لمواقفه تجاه غزة بأنه” لن يسمح بقيام دولة فلسطينية ما دام في منصبه” وهذه عقيدة جابوتنسكي.وهو بذلك يعيد فكر الثاني التوسعي الاستيطاني.
كما أن حكومة نتنياهو تبنت نفس النظرة التي حملها جابوتنسكي للشرقيين من حيث أنهم متخلفين وحيوانات فنجد وزير الدفاع اليهودي غالانت الذي قال في بداية الحرب على غزة” نحن نحارب حيوانات بشرية وسنتصرف وفقا لذلك”.
فالتاريخ يعيد نفسه بأحداثه وأشخاصه بفارق الأسماء والسنوات. لكن تبقى غزة هي الشوكة في حلوقهم ،ودماء شهدائها ستظل اللعنة التي تلاحق كل من كان وراء فورانها الذي لن يتوقف إلا بعد أن يغرق الدولة الظالمة ويقذف بها مجددا نحو التيه ودروب الضياع. وقتها ستقذف أوروبا التي تبجح بها جابوتنسكي وورثته بالانتماء إليها الأحذية المهترئة في وجوههم وتحشرهم في غيتوات وكأنهم حيوانات مريضة، وقد تصب الوقود عليهم في عمليات تحت اسم الوقود المصبوب.